فصل: سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.في ذكر رحلة الأستاذ المترجم إلى بيت المقدس:

وهو أنه لم إذن له السيد البكري بأخذ العهود وتلقين الذكر لم يقع له تسليك أحد في هذه الطريقة، إنما كان شغله وتوجهه كله إلى العلم واقرائه، لكن ذلك بجسمه وأما قلبه فلم يكن إلا عند شيخه السيد الصديقي، ولم يزل كذلك إلى عام تسع وأربعين. فحن جسمه إلى زيارة شيخه وأنشد لسان حاله:
أخذتم فؤادي وهو بعضى فما الذي ** يضركم لو كان عندكم الكل

فأرسل إليه السيد يدعوه لزيارته، فهام إذ فهم رمز إشارته وتعلقت نفسه بالرحيل، فترك الأقراء والتدريس وتقشف، وسافر إلى أن وصل بالقرب من بيت المقدس. فقيل له إذا دخلت بيت المقدس فأدخل من الباب الفلاني وصل ركعتين وزر محل كذا فقال لهم أنا جئت قاصدا بيت المقدس وما جئت قاصداً إلا أستاذي فلا أدخل إلا من بابه ولا أصلي إلا في بيته. فعجبوا له فبلغ السيد كلامه فكان سبباً لإقباله عليه وإمداده ثم سار حتى دخل بيت المقدس فتوجه إلى بيت الأستاذ فقابله بالرحب والسعة وأفرد له مكاناً، ثم أخذ في المجاهدة من الصلاة والصوم والذكر والعزلة والخلوة، قال: فبينما أنا جالس في الخلوة إذا بداع يدعوني إليه، فجئت إليه فوجدت بين يديه مائدة فقال أنت صائم، قلت نعم: فقال كل فامتثلت أمره وأكلت فقال اسمع ما أقول لك إن كان مرادك صوماً وصلاة وجهاداً أو رياضة فليكن ذلك في بلدك وأما عندنا فلا تشتغل بغيرنا ولا تقيد أوقاتك بما تروم من المجاهدة وإنما يكون ذلك بحسب الاستطاعة وكل واشرب وانبسط، قال فامتثلت إشارته ومكثت عند أربعة أشهر كأنها ساعة غير أني لم أفارقه قط خلوة وجلوة، ومنحه في هذه المدة الأسرار وخلع عليه القبول وتوجه بتاج العرفان وأشهد مشاهد الجمع الأول والثاني وفرق له فرق الفرق الثاني فحاز من التداني أسرار المثاني، ثم لما انقضت المدة أراد العود إلى القاهرة ودعه وما ودعه، وسافر حتى وصل إلى غزة فبلغ خبره أمير تلك القرية، وكانت الطريق مخيفة، فوجه مع قافلة ببيرقين من العسكر فساروا فلقيهم في أثناء الطريق أعراب فخافوهم فقالوا لأهل القافلة لا تخافوا فلسنا من قطاع الطريق وإن كنا منهم فلا نقدر نكلمهم وهذا معكم وأشاروا إلى الشيخ ولم يزالوا سائرين حتى انتهوا إلى مكان في أثناء الطريق بعد مجاوزة العريش بنحو يومين فقيل لهم أن طريقكم هذا غير مأمون الخطر ثم تشاوروا فقال لهم أعراب ذلك المكان نحن نسير معكم ونسلك بكم طريقاً غير هذا لكن اجعلوا لنا قدراً من الدراهم نأخذه منكم إذا وصلتم إلى بلبيس، فتوقف الركب أجمعه فقال الأستاذ أنا أدفع لكم هذا القدر هنالك، فقالوا لا سبيل إلى ذلك كيف تدفع أنت وليس لك في القفل شيء والله ما نأخذ منك إلا إن ضمنت أهل القافلة، فقبل ذلك فاتفق الرأي على دفع الدراهم من أرباب التجارات بضمانة الشيخ، فضمنهم وساروا حتى وصلوا إلى بلبيس ثم منها إلى القاهرة فسرت به أتم سرور وأقبل عليه الناس من حينئذ أتم قبول ودانت لطاعته الرقاب وأخذ العهود على العالم، وأدار مجالس الأذكار بالليل والنهار وأحيا طريق القوم بعد دروسها، وأنقذ من ورطة الجهل مهجاً من عي نفوسها، فبلغ هديه الأقطار كلها وصار في كثير من قرى مصر نقيب وخليفة وتلامذة وأتباع يذكرون الله تعالى، ولم يزل أمره في ازدياد وانتشار حتى بلغ سائر أقطار الأرض. وسار الكبار والصغار والنساء والرجال يذكرون الله تعالى بطريقته، وصار خليفة الوقت وقطبه ولم يبق ولي من أهل عصره إلا أذعن له، وحين تصدى للتسليك وأخذ العهود أقبل عليه الناس من كل فج، وكان بد الأمر لا يأخذون إلا بالاستخارة والاستشارة وكتابة أسمائهم ونحو ذلك، فكثر الناس عليه وكثر الطلب فأخبر شيخه السيد الصديقي بذلك فقال لا تمنع أحداً يأخذ عنك ولو نصرانياً من غير شرط، وأسلم على يديه الولي الصوفي العالم العلامة المرشد الشيخ أحمد البناء الفوي ثم تلاه من ذكر وغيرهم، وكان أستاذه السيد يثني عليه ويمدحه ويراسله نظماً ونثراً ويترجمه بالأخ، ولولا رآه قسيماً له في الحال ما صدر عنه ذلك المقال، حتى أنه قال له يوماً إني أخشى من دعائكم لي بالأخ لأنه خلاف عادة الأشياخ مع المريدين، فقال له لا تخش من شيء وامتدحه أشياخه ومعاصروه وتلامذته. توفي رضي الله عنه يوم السبت قبل الظهر سابع عشر ربيع الأول سنة 1181، ودفن يوم الأحد بعد أن صلي عليه في الأزهر في مشهد عظيم جداً، وكان يوم هول كبير وكان بين وفاته ووفاة الأستاذ الملوي ثلاثة عشر يوماً، ومن ذلك التاريخ ابتدأ نزول البلاء، واختلال أحوال الديار المصرية، وظهر مصداق قول الراغب أن وجوده أمان على أهل مصر من نزول البلاء، وهذا من المشاهد المحسوس وذلك أنه إذا لم يكن في الناس من يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب، ومتى تنافرت القلوب نزل البلاء، ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلماء والملوك، وصلاح الملوك تابع لصلاح العلماء، وفساد اللازم بفساد الملزوم، فما بالك بفقده، والرحى لا تدور بدون قطبها، وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه، ولما شرع الأمراء القائمون بمصر في إخراج التجاريد لعلي بك وصالح بك واستأذنوه فمنعهم من ذلك وزجرهم وشنع عليهم ولم يأذن بذلك كما تقدم، وعلموا أنه لا يتم قصدهم بدون ذلك، فأشغلوا الأستاذ وسموه، فعند ذلك لم يجدوا مانعاً ولا رادعاً، وأخرجوا التجاريد وآل الأمر لخذلانهم وهلاكهم والتمثيل بهم، وملك علي بك وفعل ما بدا له فلم يجد رادعاً أيضاً، ونزل البلاء حينئذ بالبلاد المصرية والشامية والحجازية ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض، فهذا هو السر الظاهري وهو لا شك تابع للباطني وهو القيام بحق وراثة النبوة وكمال المتابعة وتمهيد القواعد وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكام مباني التقوى، لأنهم أمناء الله في العالم وخلاصة بني آدم، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون. نافرت القلوب نزل البلاء، ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلماء والملوك، وصلاح الملوك تابع لصلاح العلماء، وفساد اللازم بفساد الملزوم، فما بالك بفقده، والرحى لا تدور بدون قطبها، وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه، ولما شرع الأمراء القائمون بمصر في إخراج التجاريد لعلي بك وصالح بك واستأذنوه فمنعهم من ذلك وزجرهم وشنع عليهم ولم يأذن بذلك كما تقدم، وعلموا أنه لا يتم قصدهم بدون ذلك، فأشغلوا الأستاذ وسموه، فعند ذلك لم يجدوا مانعاً ولا رادعاً، وأخرجوا التجاريد وآل الأمر لخذلانهم وهلاكهم والتمثيل بهم، وملك علي بك وفعل ما بدا له فلم يجد رادعاً أيضاً، ونزل البلاء حينئذ بالبلاد المصرية والشامية والحجازية ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض، فهذا هو السر الظاهري وهو لا شك تابع للباطني وهو القيام بحق وراثة النبوة وكمال المتابعة وتمهيد القواعد وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكام مباني التقوى، لأنهم أمناء الله في العالم وخلاصة بني آدم، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.
ومات شمس الكمال أبو محمد الشيخ عبد الوهاب بن زين الدين بن عبد الوهاب بن الشيخ نور بن بايزيد بن شهاب الدين أحمد بن القطب سيدي محمد بن أبي المفاخر داود الشربيني بمصر، ونقلوا جسده إلى شربين، ودفن عند جده، سامحه الله وتجاوز عن سيآته، وتولى بعده في خلافتهم أخوه الشيخ محمد، ولهما أخ ثالث اسمه علي وكانت وفاة المترجم ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة 1181.
ومات الشيخ الإمام العلامة المتقن المتفنن الفقيه الأصولي النحوي الشيخ محمد بن محمد بن موسى العبيدي الفارسي الشافعي وأصله من فارسكور، أخذ عن الشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والبشبيشي والنفراوي وكان آية في المعارف والزهد والورع والتصوف، وكان يلقي دروساً بجامع قوصون على طريقة الشيخ العزيزي والدمياطي وبآخراته وتوجه إلى الحجاز، وجاور به سنة، وألقى هناك دروساً وانتفع به جماعة، ومات بمكة، وكان له مشهد عظيم ودفن عند السيد خديجة رضي الله عنها.
ومات الشيخ الإمام العلامة مفيد الطالبين الشيخ أحمد أبو عامر النفراوي المالكي، أخذ الفقه عن الشيخ سالم النفراوي والشيخ البليدي والطحلاوي والمعقول عنهم وعن الشيخ الملوي والحفني والشيخ عيسى البراوي، وبرع في المعقول والمنقول ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة، وكان درسه حافلاً وله حظوة في كثرة الطلبة والتلاميذ توفي سنة 1181.
ومات الأمير حسن بك جوجو وجن علي بك وهما من مماليك إبراهيم كتخدا، وكان حسن مذبذباً ومنافقاً بين خشداشينه يوالي هؤلاء ظاهراً وينافق الآخرين سراً، وتعصب مع حسين بك وخليل بك حتى أخرجوا علي بك إلى النوسات ثم صار يراسله سراً ويعلمه بأحوالهم وأسرارهم، إلى أن تحول إلى قبلي وانضم إلى صالح بك، فأخذ يستميل متكلمي الوجاقلية إلى أن كانوا يكتبون لأغراضهم بقبلي ويرسلون المكاتبات في داخل أفصاب الدخان وغيرها، وهو مع من بمصرفي الحركات والسكنات إلى أن حضر علي بك وصالح بك وكان هو ناصبها وطاقه معهم جهة البساتين، فلما أرادوا الارتحال استمر مكانه وتخلف عنهم وبقي مع علي بك بمصر يشار إليه ويروى لنفسه المنة عليه، وربما حدثته بالإمارة دونه، وتحقق علي بك أنه لا يتمكن من أغراضه وتمهيد الأمر لنفسه، ما دام حسن بك موجوداً، فكتم أمره وأخذ يدبر على قتله. فبيت مع أتباعه محمد بك وأيوب بك وخشداشينهم وتوافقوا على اغتياله، فلما كان ليلة الثلاثاء ثامن من شهر رجب حضر حسن بك المذكور وكذا خشداشه جن علي بك وسرما معه حصة من الليل، ثم ركبا فركب صحبتهما محمد بك وأيوب بك ومماليكهما واغتالوهما في أثناء الطريق كما تقدم.
ومات الأمير رضوان جربجي الرزاز وأصله مملوك حسن كتخدا ابن الأمير خليل أغا، وأصل خليل أغا هذا شاب تركي خردجي يبيع الخردة، دخل يوماً من بيت لاجين بك الذي عند السويقة المعروفة بسويقة لاجين وهو بيت عبد الرحمن أغا المتخرب الآن، وكان ينفذ من الجهتين، فرآه لاجين بك فمال قلبه إليه ونظر فيه بالفراسة مخايل النجابة، فدعاه للمقام عنده في خدمته، فأجاب لذلك واستمر في خدمته مدة، وترقى عنده ثم عينه لسد جسر شرمساح ووعده بالإكرام إن هو اجتهد في سده على ما ينبغي، فنزل إليه وساعدته العناية حتى سده وأحكمه ورجع، ثم عينه لجبي الخراج وكان لا يحصل له الخراج إلا بالمشقة، وتبقى البواقي على البواقي القديمة في كل سنة، فلما نزل وكان في أوان حصاد الأرز، فوزن من المزارعين شعير الأرز من المال الجديد البواقي أولاً بأول وشطب جميع ذلك من غير ضرر ولا تأذية، وجمعه وخزنه واتفق أنه غلا ثمنه في تلك السنة غلواً زائداً عن المعتاد، فباعه بمبلغ عظيم ورجع لسيده بصناديق المال فقال: لا آخذ إلا حقي وأما الربح فهو لك، فأخذ قدر ماله وأعطاه الباقي، فذهب واشترى لمخدومه جارية مليحة وأهداها له، فلم يقبلها وردها إليه وأعطى له البيت الذي بلتنبانة ونزل له عن طصفة وكفرها ومنية تمامه وصار من الأمراء المعدودين، فولد لخليل هذا حسن كتخدا ومصطفى كتخدا كانا أميرين كبيرين معدودين بمصر، ومماليكه صالح كتخدا وعبد الله جربجي وإبراهيم جربجي وغيرهم، ومن مماليكه حسن حسين جربجي المعروف بالفحل ورضوان جربجي هذا المترجم وغيرهما أكثر من المائة أمير. وكان رضوان جربجي هذا من الأمراء الخيرين الدينين له مكارم أخلاق وبر ومعروف، ولما نفي علي بك عبد الرحمن كتخدا نفاه أيضاً وأخرجه من مصر. ثم أن عل يبك ذهب يوماً عند سليمان أغا كتخدا الجاويشية فعاتبه على نفي رضوان جربجي، فقال له علي بك: تعاتبني على نفي رضوان جربجي ولا تعاتبني على نفي ابنك عبد الرحمن كتخدا، فقال: ابني المذكور منافق يسعى في إثارة الفتن ويلقي بين الناس فهو يستاهل، وأما هذا فهو إنسان طيب وما علمنا عليه ما يشينه في دينه ولا دنياه، فقال: نرده لأجل خاطرك وخاطره، ورده ولم يزل في سيادته حتى مات على فراشه سادس جمادى الأولى في هذه السنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

.سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف:

.شهر المحرم سنة 1182:

استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء، في ثانيه سافرت التجريدة المعينة إلى بحري بسبب الأمراء المتقدم ذكرهم وهم حسين بك وخليل بك ومن معهم، وقد بذل جهده علي بك حتى شهل أمرها ولوازمها في أسرع وقت، وسافرت يوم الخميس وأميرها وسر عسكرها محمد بك أبو الذهب. فلما وصلوا إلى ناحية دجوة وجدوهم عدوا إلى مسجد الخضر، فعدوا خلفهم، فوجدوهم ذهبوا إلى طندتا وكرنكوا بها، فتبعوهم إلى هناك وأحاطوا بالبلدة من كل جهة، ووقع الحرب بينهم في منتصف شهر المحرم، فلم يزل الحرب قائماً بين الفريقين حتى فرغ ما عندهم من الجبخانة والبارود، فعند ذلك أرسلوا إلى محمد بك وطلبوا منه الأمان، فأعطاهم الأمان وارتفع الحرب من بين الفريقين. وكاتبهم محمد بك وخادعهم والتزم لهم بإجراء الصلح بينهم وبين مخدومه علي بك، فانخدعوا له وصدقوه وانحلت عزائمهم واختلفت آراؤهم. وسكن الحال تلك الليلة، ثم أن محمد بك أرسل في ثاني يوم إلى حسين بك يستدعيه ليعمل معه مشورة، فحضر عنده بمفرده وصحبته خليل بك السكران تابعة فقط. فلما وصلوا إلى مجلسه جماعة وقتلوهما، وحضر في أثرهما حسن بك شبكة ولم يعلم ما جرى لسيده، فلما قرب من المكان أحسن قلبه بالشر، فأراد الرجوع فعاقه رجل سائس يسمى مرزوق وضربه بنبوت فوقع على الأرض، فلحقه بعض الجند واحتز رأسه، فلما علم بذلك خليل بك الكبير ومن معه ذهبوا إلى ضريح سيدي أحمد البدوي والتجئوا إلى قبره واشتد بهم الخوف، وعلموا أنهم لاحقون بإخوانهم، فلما فعلوا ذلك لم يقتلوهم، وأرسل محمد بك يستشير سيده في أمر خليل ومن معه، فأمر بنفيه إلى ثغر سكندرية وخنقوه بعد ذلك بها. ورجع محمد بك وصالح بك والتجريدة ودخلوا المدينة من باب النصر في موكب عظيم وأماهم الرؤوس محمولة في صوان من فضة وعدتها ستة رؤوس وهي رأس حسين بك وخليل بك السكران وحسن بك شبكة وحمزة بك وإسمعيل بك أبي مدفع وسليمان أغا الوالي وذلك يوم الجمعة سابع عشر المحرم.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر صفر، حضر نجاب الحج واطمأن الناس، وفي يوم الجمعة سابع عشره وصل الحجاج بالسلامة ودخلوا المدينة وأمير الحاج خليل بك بلغيه، وسر الناس بسلامة الحجاج وكانوا يظنون تعبهم بسبب هذه الحركات والوقائع.
وفي ثامن عشر صفر، أخرج علي بك جملة من الأمراء من مصر ونفى بعضهم إلى الصعيد وبعضهم إلى الحجاز وأرسل البعض إلى الفيوم، وفيهم محمد كتخدا تابع عبد الله كتخدا وقرا حسن كتخدا وعبد الله كتخدا تابع مصطفى باش اختيار مستحفظان وسليمان جاويش ومحمد كتخدا الجردلي وحسن أفندي الباقرجي وبعض أوده باشية وعلي جربجي وعلي أفندي الشريف جمليان. وفيه صرف علي بك مواجب الحامكية. وفيه أرسل علي بك وقبض على أولاد سعد الخادم بضريح سيد أحمد البدوي، وصادرهم وأخذ منهم أموالاً عظيمة لا يقدر قدرها وأخرجهم من البلدة ومنعهم من سكناها ومن خدمة المقام الأحمدي، وأرسل الحاج حسن عبد المعطي وقيده بالسدنة عوضاً عن المذكورين، وشرع في بناء الجامع والقبة والسبيل والقيسارية العظيمة، وأبطل منها مظالم أولاد الخادم والحمل والنشالين والحرمية والعيارين وضمان البغايا والخواطئ وغير ذلك.
وفي تاسع شهر ربيع الأول حضر قابجي من الديار الرومية بمرسوم وقفطان وسيف لعلي بك من الدولة، وفيه وصلت الأخبار بموت خليل بك الكبير بثغر سكندرية مخنوقاً.
وفي يوم السب ثاني عشرة نزل الباشا إلى بيت علي بك باستدعائه فتغدى عنده وقدم له تقادم وهدايا.
وفي يوم الأحد ثامن عشر ربيع الآخر اجتمع الأمراء بمنزل علي بك على العادة وفيهم صالح بك، وقد كان علي بك بيت مع أتباعه على قتل صالح بك، فلما انقضى المجلس وركب صالح بك ركب معه محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وأحمد بك بشناق المعروف بالجرار وحسن بك العبداوي وعلي بط الطنطاوي، وأحدق الجميع بصالح بك ومن خلفهم الجند والمماليك والطوائف، فلما وصلوا إلى مضيق الطريق عند المفارق بسويقة عصفور تأخر محمد بك ومن معه عن صالح بك قليلاً، وأحدث له محمد بك حماقة مع سائسه وسحب سيفه من غمده سريعاً وضرب صالح بك، وسحب الآخرون سيوفهم ما عدا أحمد بك بشناق وكملوا قتلته، ووقع طريحاً على الأرض، ورمح الجماعة الضاربون وطوائفهم إلى القلعة، وعندما رأوا مماليك صالح بك وأتباعه ما نزل بسيدهم خرجوا على وجوههم، ولما استقر الجماعة القاتلون بالقلعة وجلسوا مع بعضهم يتحدثون عاتبوا أحمد بك بشناق في عدم ضربه معهم صالح بك، وقالوا له: لماذا لم تجرد سيفك وتضرب مثلنا؟ فقال بل ضرب معكم، فكذبوه، فقال له بعضهم: أرنا سيفك فامتنع وقال: إن سيفي لا يخرج من غمده لأجل الفرجة، ثم ستوا وأخذ في نفسه منهم وعلم أنهم سيخبرون سيدهم بذلك فلا يأمن غائلته، وذلك أن أحمد بك هذا لم يكن مملوكاً لعلي بك وإنما كان أصله من بلاد بشناق حضر إلى مصر في جملة أتباع علي باشا الحكيم عندما كان والياً على مصر في سنة 1169. فأقام في خدمته إلى سنة 1171. وتلبس صالح بك بإمارة الحج في ذلك التاريخ، فاستأذن أحمد بك المذكور علي باشا في الحج وأذن له فحج مع صالح بك وأكرمه وأحبه وألبسه زي المصريين، ورجع صحبته، وتنقلت به الأحوال وخدم عند عبد الله بك علي ثم خدم عند علي بك فأعجبه شجاعته وفروسيته فرقاه في المناصب حتى قلده الصنجقية وصار من الأمراء المعدودين. فلم يزل يراعي منة صالح السابقة عليه، فلما عزم علي بك على خيانة صالح بك السابقة وغدره خصصه بالذكر وأوصاه أن يكون أول ضارب فيه، لما يعلمه فيه من العصبية له، فقيل له أن أحمد بك أسر ذلك إلى صالح بك وحذره غدر علي بك إياه، فلم يصدقه لما بينهما من العهود والأيمان والمواثيق، ولم يحصل منه ما يوجب ذلك، ولم يعارضه في شيء ولم ينكر عليه فعلاً. فلما اختلى صالح بك بعلي بك أشار إليه بما بلغه، فحلف له علي بك بأن ذلك نفاق من المخبر، ولم يعلم من هو، فلما حصل ما حصل ورأى مراقبة الجماعة له ومناقشتهم له عند استقرارهم بالقلعة تخيل وداخله الوهم وتحقق في ظنه تجسم القضية، فلما نزلوا من القلعة وانصرفوا إلى منازلهم تفكر تلك الليلة وخرج من مصر وذهب إلى الإسكندرية وأوصى حريمه بكتمان أمره ما أمكنهم، حتى يتباعد عن مصر، فلما تأخر حضوره بمنزل علي بك وركوبه سألوا عنه، فقيل له أنه متوعك، فحضر إليه في ثاني يوم محمد بك ليعوده وطلب الدخول إليه فلم يمكنهم منعه، فدخل إلى محل مبيته فلم يجده في فراشه، فسأله عنه حريمه فقالوا لا نعلم له محلاً ولم يأذن لأحد بالدخول عليه، وفتشوا عليه فلم يجدوه، وأرسل علي بك عبد الرحمن أغا وأمره بالتفتيش عليه وقتله، فأحاط بالبيت وفتش عليه في البيت والخطة فلم يجده، وهو قد كان هرب ليلة الواقعة في صورة جزائرلي مغربي وقصقص لحيته وسعى بمفرده إلى شلقان وسافر إلى بحري، ووصل السعاة بخبره لعلي بك بأنه بالإسكندرية، فأرسل بالقبض عليه فوجدوه نزل بالقبطانة واحتمى بها، وكان من أمره ما كان بعد ذلك كما سيأتي، وهو أحمد باشا الجزار الشهير الذكر الذي تملك عكا وتولى الشام وإمارة الحج الشامي وطار صيته في الممالك.
وفيه عين علي بك تجريدة على سويلم بن حبيب وعرب الجزيرة فنزل محمد بك بتجريدة إلى عرب الجزيرة وأيوب بك إلى سويلم فلما ذهب أيوب بك إلى دجوة فلم يجد بها أحداً وكان سويلم بائتاً في سند نهور وباقي الحبايبة متفرقين في البلاد، فلما وصله الخبر ركب من سند نهور وهرب بمن معه إلى البحيرة والتجأ إلى الهنادي. ونهبوا دوائره ومواشيه، وحضروا بالمنهوبات إلى مصر واحتج عليه بسبب واقعة حسين بك وخليل بك لما أتيا إلى دجوة بعد واقعة الديرس والجراح، قدم لهم التقادم وساعدهم بالكلف والذبائح ونحو ذلك، والغرض الباطني اجتهاده في إزالة أصحاب المظاهر كائناً ما كان.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرة أمر علي بك بإخراج علي كتخدا الخربطلي منفياً وكذلك يوسف كتخدا مملوكه، ونفي حسن أفندي درب الشمسي وأخوته إلى السويس ليذهبوا إلى الحجاز، وسليمان كتخدا الجلفي وعثمان كتخدا عزبان المنفوخ، وكان خليل بك الأسيوطي بالشرقية، فلما سمع بقتل صالح بك هرب إلى غزة.
وفي يوم الأحد خامس جمادى الأولى طلع علي بك إلى القلعة وقلد ثلاثة صناجق من أتباعه وكذلك وجاقلية، وقلد أيوب بك تابعه ولاية جرجا وحسن بك رضوان أمير حج وقلد الوالي.
وفي جمادى الآخرة قلد إسمعيل بك الدفتر دارية وصرف المواجب في ذلك اليوم.
وفي منتصف شهر رجب وصل أغا من الديا الرومية وعلى يده مرسوم بطلب عسكر للسفر، فاجتمعوا بالديوان وقرأوا المرسوم وكان علي بك أحضر سليمان بك الشابوري من نفيه بناحية المنصورة، وكان منفياً هناك من سنة 1172.
وفي يوم الثلاثاء عملوا الديوان بالقلعة ولبسوا سليمان بك الشابوري أمير السفر الموجه إلى الروم، وأخذوا في تشهيله وسافر محمد بك أبو الذهب بتجريدة ومعه جملة من الصناجق والمقاتلين لمنابذة شيخ العرب همام، فلما قربوا من بلاده ترددت بينهم الرسل واصطلحوا معه على أن يكون لشيخ العرب همام من حدود برديس، ولا يتعدى حكمه لما بعده. واتفقوا على ذلكثم بلغ شيخ العرب أنه ولد لمحمد بك مولود فأرسل له بالتجاوز عن برديس أيضاً إنعاماً منه للمولود ورجع محمد بك ومن معه إلى مصر. وفيه قبض علي بك على الشيخ أحمد الكتبي المعروف بالسقط وضربه علقة قوية وأمر بنفيه إلى قبرص، فلما نزل إلى البحر الرومي ذهب إلى اسلامبول وصاهر حسن أفندي قطه مسكين النجم وأقام هناك إلى أن مات وكان المذكور من دهاة العالم يسعى في القضايا والدعاوى يحيي الباطل ويبطل الحق بحسن سبكه وتداخله.
وفي سابع عشرة حصلت قلقة من جهة والي مصر محمد باشا، وكان أراد أن يحدث حركة فوشي به كتخداه عبد الله بك إلى علي بك، فأصبحوا وملكوا الأبواب والرملية والمحجر وحوالي القلعة، وأمروه بالنزول فنزل من باب الميدان إلى بيت أحمد بك كشك، وأجلسوا عنده الحرسجية.
وفي يوم الأحد غرة شعبان تقلد علي بك قائمقامية عوضاً عن الباشا.
وفي يوم الخميس أرسل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان إلى رجل من الأجناد يسمى إسمعيل أغا من القاسمية، وأمره بقتله، وكان إسمعيل هذا منفياً جهة بحري وحضر إلى مصر قبل ذلك وأقام ببيته جهة الصليبة. وكان مشهوراً بالشجاعة والفروسية والإقدام، فلما وصل الأغا حذاء بيته وطلبه ونظر إلى الأغا واقفاً بأتباعه ينتظره علم أنه يطلبه ليقتله كغيره، لأنه تقدم قتله لأناس كثيرة على هذا النسق بأمر علي بك فامتنع من النزول وأغلق باباه، ولم يكن عنده أحد سوى زوجته وهي أيضاً جارية تركية. وعمر بندقيته وقرابينته وضرب عليهم فلم يستطيعوا العبور إليه من الباب، وصارت زوجته تعمر له وهو يضرب حتى قتل منهم أناساً وانجرح كذلك، واستمر على ذلك يومين وهو يحارب وحده. وتكاثروا عليه وقتلوا منن أتباعه وهو ممتنع عليهم إلى أن فرغ منه البارود والرصاص ونادوه بالأمان، فصدقهم ونزل من الدرج فوقف له شخص وضربه وهو نازل من الدرج، وتكاثروا عليه وقتلوه وقطعوا رأسه ظلماً رحمه الله تعالى.
وفي تاسع عشره صرفت المواجب على الناس والفقراء.
وفي ثامن عشرينه خرج موكب السفر الموجه إلى الروم في تجمل زائد.
وفي عاشر رمضان قبض علي بك على المعلم اسحق اليهودي معلم الديوان ببولاق وأخذ منه أربعين ألف محبوب ذهب، وضربه حتى مات، وكذلك صادر أناساً كثيرة في أموالهم من التجار مثل العشوبي والكمين وغيرهما وهو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبادي ظهوره، واقتدى به من بعده.
وفي شوال هيأ علي بك هدية حافلة وخيولاً مصرية جياداً وأرسلها إلى اسلامبول للسلطان ورجال الدولة، وكان المتسفر بذلك إبراهيم أغا سراج باشا، وكتب مكاتبات إلى الدولة ورجالها والتمس من الشيخ الوالد أن يكتب له أيضاً مكاتبات لما يعتقده من قبول كلامه وإشارته عندهم، ومضمون ذلك الشكوى من عثمان بك بن العظم والي الشام وطلب عزله عنها، بسبب انضمام بعض المصريين المطرودين إليه ومعاونته لهم، وطلب منه أن يرسل من طرفه أناساً مخصوصين، فأرسل الشيخ عبد الرحمن العريشي ومحمد أفندي البردلي، فسافروا مع الهدية وغرضه بذلك وضع قدمه بالقطر الشامي أيضاً.
وفي ثاني عشر ذي القعدة رسم بنفي جماعة من الأمراء أيضاً وفيهم إبراهيم أغا الساعي اختيارية متفرقة وإسمعيل أفندي جاويشان وخليل أغا باش جاويشان جمليان وباشجاويش تفكجيان ومحمد أفندي جراكسة ورضوان والزعفراني، فأرسل منهم إلى دمياط ورشيد وإسكندرية وقبلي، وأخذ منهم دراهم قبل خروجهم، واستولى على بلادهم وفرقها في أتباعه، وكانت هذه طريقته فيمن يخرجه يستصفي أموالهم أولاً ثم يخرجهم ويأخذ بلادهم وأقطاعهم فيفرقها على مماليكه وأتباعه الذين يؤمرهم في مكانهم، ونفى أيضاً إبراهيم كتخدا جدك وابنه محمداً إلى رشيد، وكان إبراهيم هذا كتخداه ثم عزله وولاه الحسبة فلما نفاه ولى مكانه في الحسبة مصطفى أغا والله أعلم.